الاثنين، 22 أكتوبر 2012

الحلقة الثالثة


عائلتي ..
لكمّ مقتُ وجودهم في حياتي ووجودي معهم ..
والد من النوع القاسي وكأن الزمن توقف به عند العشرينيات من هذا القرن ..
والدة ترى أن وظيفتها الوحيدة الإطعام والتنظيف وكلمة (الحنان) ليست في معجمها..
تشارك والدي القسوة حينما أرتأت أن ذلك ما أراده وما يرغب فيه ..
أخ مُدلل لم آخذ ربع الفرص التي أتاحاها له ، وحوّله التدليل إلى مستهتر آخر .
لكمّ حاولت الانفصال عنهم لكني لم أستطع .. ولكمّ حاولت التأقلم ولكني لم أحتمل ..
والآن لم يعودوا متواجدين في تلك الحياة وفي نفس الوقت ليسو بموتى ..
وأنا المسئول عن ما حدث لهم ..
هذا ما أردته يوماً ما ..
هذا ما حلمت به ..
أنا أستيقظ ولا أجدهم ..
ولكن حينما تحقق ما تمنيته أدركت أن الأمر ليس بتلك الروعة التي تخيلتها .

**********************************
 قالت لي :
- " لا تُخبرني أنك لم تكن تعلم أن اختفاء عائلتلك جزءاً من الاتفاق بينك وبين الوسيط ؟ "
أجبتها وأنا أجلس على الرصيف كمن صدمته شاحنة :
- " لا لم يكن كذلك ، لقد أضعت كل شيء .. وأضعت كل من حولي "
- " إذا أردت الدقة فليس الكل بعد "
- " ماذا تعنين ؟ "
جلست بجواري وقالت :
- " ما حدث لعائلتك سيحدث لكل من تعرفهم أو من كنت على علاقة بهم إن لم نجد حل لتلك الأزمة "
صمتت للحظة ثم استطردت :
- " كل من يُهمك أمرهم سيختفون من هذا العالم يا (شريف) .. كلهم بلا استثناء "
نظرت لها وقلت :
- " لا أعلم لماذا أشعر بأن نبرتك تحمل التهديد ؟ "
- " بل تحذير .. فأنت لا تُدرك حجم ما أقحمت نفسك فيه .. الأمر جد خطير "
نَهضَتْ وهي تقول :
- " هي بنا إلى منزلك  "
نظرت لها وابتسمت رغماً عني لوقع تلك العبارة على مسمعي .. وسرعان ما أدركَت هي سبب ابتسامتي وقالت :
- " يبدو أن نيّتك السوداء لم تتأثر بما حدث لك "
اتسعَت ابتسامتي على وجهي .. وخطر لي أنني لم أعرف أسمها حتى الآن فسألتها ..
أجابتني :
- " (ناملديم) .. ولا تسألني عن معناه من فضلك فلم أجد شخصاً إلا وسألني عن معنى هذا الاسم "
- " لا لن أسأل ولكن من المؤكد أن معناه الوردة باليوناني أو القمر بالفارسي كالعادة .. دعينا نتجه إلى المنزل وكفانا ثرثرة "

**********************************
من حسن الحظ أنني أسكن في الدور الأخير لذلك كان التسلق من السطح إلى الشُرفة من أسهل ما يُمكن ..
لا تقلقوا فلا مخاطر ها هنا .. فأنا أضمن أنني سأكون بخير إذا سقطت ..
هاهي مزية أخرى لحالتي ..
كأي لص محترف – وإن لم أكن لصاً ولا محترفاً من قبل – عالجت (شيش) الشُرفة ودلفت إلى داخل المنزل ..
أدركتُ كم كنا محظوظين لعدم سرقة منزلنا حتى الآن نظراً لما رأيته من سهولة الأمر .
كانت (ناملديم) تنتظرني خارج أمام باب الشقة ففتحت لها الباب ودَعَوتها للدخول ..
أرى منكم من يبتسم ويقول عبارات من عينة : (الله يسهلوه يا عم) و(الشيطان شاطر يابا) لذلك سأكتفي بأن أقول : له إذا أردت أن تصبح في نفس موقفي ووضعي فأهلا بك بشرط أن أكون مكانك الآن أنعم بنعمة المادية .
كعادة أي فتاة ظلت تتفحص المنزل بفضول لم يكن وقته .. إلى أن دلفنا إلى غرفتي وقمت بتشغيل الكمبيوتر الخاص بي بينما جلست هي على أريكة بالقرب من خزانتي .
- " هل تتوقع أن تجد شيئاً يقودك إليه مرة أخرى ؟ "
خرج السؤال منها تصاحبه نغمة بدء تشغيل (الويندوز) المعتادة ..
أجبتها بنفاذ صبر :
- " هل ترين أن إحباطي ضروري الآن ؟ "
لم تُجيبني .. ولم أنتظر منها إجابة وشرعت في فتح ال(ماسينجر) الخاص بي باحثاً عن محدثتي مع (الوسيط) ..
وكما توقعت لم يكن لها أثر .
ظللت أراجع تاريخ المتصفح لأصل لعنوان الموقع الذي وجدت به البريد الإلكتروني الخاص به ..
- " ما أمر تلك (الدبلتان) الفضية والذهبية الموجودتان في خزانتك ؟ "
أستدرت نحوها فوجدتها تقف أمام الخزانة فقلت لها بعصبية :
- " يبدو أنني لست الوحيد الذي فقد الذوق كما أتهمتينني من قبل .. ألم تسمعي عن مصطلح يُدعى (الخصوصية) ؟ "
قالت ببرود :
- " أنه مجرد فضول ؟ .. ولعلمك .. الخزانة لم تكن مغلقة "
- " وهل هذا وقته ؟ "
- " أنه فقط فضول .. لا أظن أنني أرتكبتُ جريمة "
أهملتها تماماً وعدت إلى ما أفعله ..
وكما تتوقعون وتوقعت ..
لا أثر لأي شيء وكأن الموقع لم يوجد من قبل ..
نعم كنت أعلم أن ما أفعله الآن هو مجرد عبث وكنت أتوقع أنني لم أجد أي شيء ولكنها كانت قشة أتعلق بها ولا أجد غيرها ..
- " لم تجد شيئاً أليس كذلك ؟ "
- " نعم "
- " كما توقعت "
وددت أن أطلب منها أن تُطربني بصمتها فليس هذا وقت إظهار الحكمة ..
قلت لهما معتصراً غيظي بداخلي :
- " وما الحل إذن أيتها العالمة ببواطن الأمور ؟ "
- " لا أعلم ولكن ما أعلمه جيداً أن الوقت يداهمنا واختفاء من تعرفهم قد بدأ "
في الواقع لم أتعرف على أشخاص جدد منذ عام .. فقد توقفت عن التعرف على أشخاص جدد عندما تَعطل لديّ جهاز التعرف عن من يصلح ومن لا يصلح منهم فصادقت بدلاً عن البشر كتاب ولفافة تبغ ..
إذن فمن تتحدث عنهم هم أشخاص خارج حياتي حالياً ولكن هل هذا سبباً كافياً لكي أتقبل أن يتم إيذائهم بسبب تصرفي الغير مسئول ؟
يوجد منهم من أكرهه بنفس درجة حبي له في وقت من الأوقات ولكن هل هذا سبباً لاختفائه من الحياة ؟
أنتشلتني (ناملديم) - والتي بدأت أشعر أن أسمها يحمل الطابع التركي - من تفكيري وقالت :
- " هل لي أن أعرف هل صاحبة (الدبلة) الذهبية من ضمن من ستفتقدهم إن أختفَت ؟ "
- " أنتي تُخرجيني عن شعوري بفضولك هذا وتدخلك في أمور حياتي الشخصية ؟ "
- " العالم سينتهي قريباً فربما تلك هي آخر مرة قد تبوح بها لأحد عن مشاعرك "
قلت لها بعصبية شديدة :
- " تتحدثين وكأن انتهاء العالم حتمي وكأن ذلك الوسيط هو إله بيده الأمر "
- " ليس بإله ولكنه أيضاً ليس ببشر وأياً كان ما خطط له فأظن أنه قد خطط له جيداً ..
أنت تتحدث عن كائن لا نعرف طبيعته ولا نعلم كنهه .. نحن نتعامل مع كيان قد لا يستوعبه عقل إنسان "
- " ربما لم أنجح في شيء طوال عمري ولكنني لم أعتاد أن يؤذى شخص واحد بسببي أو أكون سبب لإيذاء غيري ، ولن أكون جزءاً من مخططه هذا أو سبباً له .. أتفهمين ؟؟؟ "
- " أنت تتحدث وكأني أنا من أوقعتك بهذا الموقف .. أنت من أوقعت نفسك بتسرعك ورغبتك في الهروب من واقعك "
- " أعترف أنني تسرعت وأخطأت وها أنا أجني ثمار ما فعلته .. كل شخص له نهاية العالم الخاص به وأنا لم أجد في حياتي ما يجعلني أستمر بها .. بالنسبة لي كان العالم قد انتهى بالفعل "
- " وهل هذا كافي بأن تقوم بتلك الحماقة التي قمت بها ؟ "
أبتلعتُ غضبي بداخلي وقلت لها :
- " هل سيُفيد ندمي بشيء ؟ هل سيُفيد إشعارك لي بمدى حماقتي بشيء ؟ "
ظلت ترمقني بنظرات حانقة وكأنها تود خنقي فأستكملتُ حديثي – أو ثورتي عليها - قائلاً :
- " اختفاء اختفاء اختفاء .. إلى متى سأظل أستمع إلى ... "
وهنا تذكرت شيئاً كانت قد أخبرتني به من قبل ..
(برزخ التأهيل) يعج بحالات الاختفاء الغامضة التي لم يجد أحد تفسير لها ..
تركتها وعدت مُسرعاً مرة أخرى للكمبيوتر وكتبتُ في محرك البحث الخاص ب(جوجل) : (حالات الإختفاء الغامضة) .
سمعتها تقول :
- " ما الأمر ؟ "
لم أجيبها فأحضَرَت أحد المقاعد وجلَسَت بجواري وقرَأت عنصر البحث .
- " هل تظن أن ما تبحث عنه سيفيدنا بشيء ؟ "
- " ربما .. دعينا نرى "
بدأت النتائج في الظهور .. وقرأت بصوت عالي ما كُتب في أحد نتائج البحث :
- " في الأول من ديسمبر من عام 1946 ، اختفت طالبة اسمها (باولا ويلدن) – 18 عام - عندما تسير على طول السكة الحديدية داخل جبل (غلاستنبيري) ، ورآها زوجان في منتصف العمر كانا يتجولان خلفها بحوالي 90 متراً ، ولم يعد بإمكانهما رؤيتها حينما واصلت سيرها على السكة الحديدية ودارت حول جدار صخري بارز، لكنهما عندما التفا حول ذلك الجدار لم يعثروا عليها في أي مكان .. ومنذ ذلك الحين لم يرى أحد (باولا) أو حتى يسمع عنها .
في الأول من ديسمبر من عام 1949 ، اختفى السيد (تيتفورد) من أتوبيس مزدحم ، كان يجلس مع 14 راكباً آخر  كلهم شهدوا أنهم رأوه نائماً في مقعده ، وعندما وصل الأتوبيس إلى وجهته النهائية كان (تيتفورد) قد اختفى أما متعلقاته الشخصية فكانت موضوعة في حقيبة أمتعة ، ومنذ ذلك اليوم لم يعثر إطلاقاً عليه .
في عام 1809 اختفى الدبلوماسي البريطاني (بنيامين باثرست) في الهواء الطلق في بلدة (باثرست) ، كان عائداً إلى (هامبورغ) مع رفيق له بعد أن كان له مهمة في محكمة نمساوية وأثناء طريق عودته توقف ليتناول العشاء في فندق صغير في (بيريبيرغ) .. وبعد الإنتهاء من تناول العشاء عادا إلى عربتهما التي تجرها الجياد ، كان رفيقه يراقبه وهو يتفقد الجياد في مقدمة العربة وهنا اختفى ببساطة دون أي أثر .
في عام 1975 كان (جاكسون رايت) يقود سيارته بصحبة زوجته من (نيوجرسي) إلى (مدينة نيويورك) عبر نفق (لينكولن) ووفقاً لما رواه (جاكسون) فإنه توقف بسيارته ليمسح آثار البخار المتكثف على زجاج النافذة الأمامية للسيارة فيما تطوعت زوجته مارثا لتمسح زجاج نافذة الخلفية للسيارة وبالتالي يستطيعان الإستمرار برحلتهم ، وعندما نظر (جاكسون) من حوله كانت زوجته قد اختفت حيث وحينها لم يسمع أو يرى أي شيء غير طبيعي ، كما لم تعثر التحقيقات اللاحقة على أي دليل أو تكشف محاولة للتضليل ، وببساطة اختفت (مارثا) دون عودة . "
نظرت لها متابعاً :
- " ضيفي إلى تلك الحوادث المئات آو الآلاف من مثيلتها .. وأيضاً ضيفي إليها حالات اختفاء نُسبت إلى الكائنات الفضائية والتي كان يرافقها ضوءاً ساطع كالذي أعرفه وتعرفينه مما يجعلنا الآن نعلم جيداً أنه لا دخل للمخلوقات الفضائية باختفائهم "
- " هذا جيد .. أنتا لم تضيف شيئاً جديد ها هنا .. ما الذي سيوصّلنا إليه كل هذا الكم من المعلومات ؟ "
أجبتها :
- " ألم تسألي نفسك ما كنه هذا التأهيل الذي يقوم به هذا البرزخ ؟ "
- " لا أعلم "
- " لقد قلتي لي من قبل أن الوسيط يخُطط إلى نهاية العالم ، وحالات الاختفاء هي أداته لهذه النهاية .. إذن دعينا نتخيل للحظات أنه لا يهدف إلى إخفاء البشر بأكملهم بل هو ببساطة يود تكوين جيش ممن هم في حالاتنا .. جنوداً لا يراهم أحداً ولا يُصابون بل .. لا يُموتون "
- " وما الذي جعله ينتظر كل هذا الوقت حتى يبدأ فيما يُخطط له "
- " صدقي أو لا .. كان ينتظر الغبي الذي سيطلب من تلقاء نفسه الدخول إلى (برزخ التأهيل) "
- " وهل من المنطقي أنه طوال كل تلك السنوات لم يجد من يطلب منه ذلك ؟ "
- " مممممممم .. على ما يبدو أنه لم يجد أحد "
أرجعتُ رأسي للوراء مسترخياً ثم سألتها :
- " ولكن ما المهمة التي يريدني أن أنفذها ؟ ولماذا يتوقف الأمر عليّ أنا بالتحديد ؟ وما هوية وطبيعة هذا الوسيط ؟ "
- " ومتى سيبدأ الأمر ؟ وكيف سنتمكن من إنقاذ من تعرفهم ؟ .. أضف تلك الأسئلة إلى أسئلتك أيضاً "
لم تمر ثانية على عبارتها حتى سطع ضوءٌ شديد كالذي رأيته في (برزخ التأهيل) .. ولكنه بدا أشد لأنه تسرب إلى داخل الغرفة عبر الشرفة .
تشبثَت (ناملديم) بي في فزع وجد شبيهه بداخلي وقالت وعيناها تمتلئ رعباً لم أراه من قبل :
- " (شريف) .. لا فائدة .. لقد بدأ الأمر بالفعل "

(يُتبع)

محمد العليمي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق