الأربعاء، 13 مارس 2013

الحلقة السادسة


مرت ثلاثة أشهر على بداية المذابح  ..
لم يحدث الكثير .. هذا إذا ما قررت أن عمليات الإبادة اليومية التي يمارسها جيش (الوسيط/ناملديم) لمن تبقى من البشر في كافة أنحاء الأرض ليست بالشيء الهام .
نعم .. فكلمة الأسرى ليست في قاموس جيشه ..
لا تترك كائناً حياً وراءك ..
لا تُفرق بين طفلاً أو امرأة أو شيخاً ..
يُطبقون ما قرأناه عن ما سيفعله شعب (يأجوج ومأجوج) بالحرف ..
يبدو أن (ناملديم) تعلم ما تفعله جيداً .. فهي ببساطة تُنفذ النبوءات الدينية حرفياً .. تريد أن تخلق نهاية عالم خاصة بها ..
تظن أنها تستطيع أن تكون إلهاً .. وتتصرف على هذا الأساس .
في هذه الحلقة وفي الحلقة التالية لها سأقدم لكم بعض الشخصيات ..
ما علاقتهم بموضوعنا الأساسي ؟
سؤال غريب حقاً .. وكأن من يسأله يتوقع مني أن أخبره بنهاية الأحداث بالمرة !!
أجد هناك أيضاً مَن يتقمّص دور العالم ببواطن الأمور ويقول في حكمة مفتعلة : " من المؤكد أن هؤلاء هم الفريق الذي ستقوم معه بإنقاذ العالم " ، ولكن يا سيدي الحكيم أنا لست بصدد سرقة البنك المركزي ولا تظن أنني سأستخدم نفس التيمة التي امتلأت بها الأفلام الأمريكية منذ القِدم ..
ثق بي عندما أُخبرك أن الأمر أكثر تعقيداً مما تخيل .
من المؤكد أن تلك الرسالة هي الأولى للبعض هنا ، ولذلك وجب عليَّ أن أُعَرٍّف زبائني الجدد - إن صح التعبير - بنفسي ..
أنا (شريف الميرغني) .. وأُحدثكم من تحت رداء الموت .

*************************

إنه الانتقام ..
لابد من ذلك حتى يجد لنفسه سبباً يعيش من أجله .
في بلدته الصغيرة دائماً ما تُكشف الجرائم وهو لا يريد هذا لأنه - ببساطة - يود أن يعاود القتل مرات ومرات لكي تهدأ روحه القلقة التي لن تهدأ إلا عندما يأخذ ثأره من كل من جعلوا حياته جحيماً .
لم تكن أساليب كشف الجُناة قد تطورت بعد ولكن الشرطة قد أبدت بلاءاً حسناً في الفترة الأخيرة ليُطلق على بلدته لقب (البلدة الأكثر أماناً) في شمال (إنجلترا) ، وهو لقب جعل الشرطة تحاول أن تُثبت أن بلدتها جديرة به في كل مرة تُرتكب فيها جريمة .
لم يشارك أحداً بما ينتويه لأن نيته في حد ذاتها هي جريمة في بلدته ، مما جعله يظل يقظاً أكثر من ثلاثة أيام نظراً للبركان الذي أنفجر بداخله .
من المؤكد أن هناك وسيلة ما يحقق بها ما أراده ..
هو لم يعد يؤمن بالمسيح برغم أنه يذهب إلى كنيسة البلدة كل أحد ويظل يحملق في من بجواره ممن أغمضوا أعينهم طوال الصلاة خشوعاً ولكنه يعلم أن هناك عدالة إلهية ستنتقم منه ، كما أنه يعلم أن مبررات قتله لن يؤخذ بها أمام المحكمة .
" سيدي القاضي .. لقد قتلت ثلاثة أفراد لأنهم كانوا يستهزئون بي وواحدٌ منهم تزوج حبيبتي (كاثرين) "
يا لها من مبررات واهية ..
ولكنه - برغم ذلك - لم يجد ما يفعله سوى أن يجعل هؤلاء الأوغاد يختفون من الوجود .
في تلك اللحظة تمنى لو كان ما قرأه في رواية (الرجل الخفي) حقيقة .. ذلك العقار الذي يتناوله بطل الرواية فيختفي ..
ليت كان الأمر بهذه السهولة .. لنَفذ حينها انتقامه ولربما صار من أغنياء العالم بعد سرقته لبنك ما وهو مختفي .
غفلت عيناه لمدة ساعات قليلة تخللها رؤى يتجسد فيه ذبحه لأعدائه وحمله لـ (كاثرين) بعيداً عن تلك البلدة ليبدءا حياةً جديدة .. يستيقظ بعدها والعرق يُغرقه ويجد نفسه يقرر فجأة أن يذهب إلى آخر مكان من الممكن أن يذهب إليه ..
الكنيسة المهجورة ..
لا يعلم ما الذي أتى بتلك الفكرة في رأسه ..
شعر أنه مجبر على الذهاب إلى هناك برغم أنه يفزع لمجرد استيقاظه في الظلام ..
نعم .. هو جبان وهو يعلم هذا ، ولِكَمّ حاول أقرانه أن يتلذذون برؤيته فَزِع ولكنه وجد الفكرة تسيطر عليه .
شَعَر أنه مُساق إلى الكنيسة القديمة ..
الليل .. الصقيع .. الأشجار ..
الكنيسة .

*************************
أسمه (نبيل محمود) ..
عمره يقترب من عمري .. قد يزيد سنة أو ينقصها ولكن ملامحه لم تكن تدل على عمره الحقيقي .
كان يشتهر بين أقرانه بالـ (دهولة) كما يسمونها فكانت ملابسه دوماً لا تتناسق سوياً ..
ألوان كثيرة .. حذاء لم يتغير منذ عامان وبرغم ذلك فنعله لم يغادره وإن تركا العامان أثارهما عليه ..
بنطال لا يناسب مقاسه .. أما ما يرتديه أعلى البنطال فإما قميص لم تلمسه المكواة أو (بول أوفر) تَنَسَلت خيوطه وذبلت .
لم يكن أحد يعرف كَنْه مهنته .. ولكنه كان يبدو كواحدٍ من هؤلاء الذين يتقنون كل شيء ..
فهو يبدو كمهندس كمبيوتر أحياناً وهو يحمل حقيبة (اللاب توب) الفارغة منه بسبب بيعه إياه منذ فترة ، ويبدو أحياناً كطالب هندسة بشروده الكثير ونظارته الرفيعة ، ويبدو كمحام مبتدأ عندما يرتدي بذلته الرمادية التي خَفَتَ لونها بفعل الزمان ..
ولكن من يعرفونه - وهم قليلون - يُدركون أنه مجرد باحث نَهِم عن عمل منذ ما يقارب عامان .
يعيش بمفرده في غرفة متواضعة تركها له والده المتوفي في سطح أحدى البنايات ، أما عن مصاريف العيش فالاقتراض هو سمة حياته ، وأحياناً ما ينال نقود قليلة نظير عمل ما قام به وهو ما يسميه دوماً (شُغلانة جاتلي) .
كان يظن دوماً أن الثراء آتٍ لا محالة .. فكل أغنياء العالم كانوا فقراء وربما كانوا أيضاً يعيشون في غرفة بل قد يكونوا قد حملوا يوماً حقيبة (لاب توب) فارغة .
لم يكن يعلم أن العالم سيتغير بعد ساعات قليلة أو قد ينتهي تماماً ، لم يكن يصل خياله إلى أن يتوقع حدوث ذلك برغم كَمّ الأفلام التي رآها عن نهاية العالم .. بل لم يدور في عقله يوماً السؤال الأزلي الذي دار في عقول كل البشر تقريباً : ما الذي قد ترغب في فعله إذا ما كانت نهاية العالم غداً ؟ .. يبدو أنه لم يلعب يوماً أي لُعبة من تلك الألعاب التي تزخر بهذا النوع من الأسئلة والتي تكون دوماً بين ثُلة من الأصدقاء،ولكن من المؤكد أنه لو كان يعلم أن النهاية قد قاربت لكان قد فعل شيئان لا ثالث لهما ..
أولاً .. لكان قد شرع في الصلاة مئات الركعات تعويضاً عن سنوات لم يُصلّي فيها مكتفياً بالتأمين وراء من يدعون له بالهداية والمواظبة على الصلاة ، وثانياً .. لكان قد أتجه إلى والد (نهلة) زميلته القديمة في الكلية طلباً للزواج منها ، ففي قرارة نفسه كان يعلم أن الشيء الوحيد الذي سيجعله يتزوجها هو أن يوشك العالم على الانتهاء ومن ثم فإن والدها سيوافق حينها لأنه لن يكون هناك مجالاً لتَرَف الشَبْكَة والمهر والشقة .
ولكن (نبيل) كان يظن أنه لابد أن يكون هناك مؤشر يوم أن يوشك العالم على الانتهاء لكي يستعد .. أو هذا ما تمناه ..
ولكن تأتي الرياح دوماً بما لم تشتهي السفن يوماً .

*************************
" صاحبك لا تناسبه ولا تحاسبه "
تلك كانت أول قاعدة نظرية غير علمية سمعها في حياته ، وأول ما ثَبُتَت صحتها لديه ..
توالى بعدها اهتمامه بمثل تلك النظريات .. بل أصبحت هي حياته .
" البنت بتَنَسّي بنت "
كان يُخضِع كل قاعدة من تلك القواعد للتجربة إن أستطاع أو على الأقل يتأكد من صحتها عن طريق من أتبَعوها ممن يعرفهم .
" سِيب البنت تحبك .. حِبّ البنت تسيبك "
ظل يبحث عن كل القواعد الاجتماعية والعاطفية بل والجنسية التي يتداولها الشباب فيما بينهم أو التي ثبتت في مُعتقد من حوله حتى أطلق عليه أقرانه لقب (أحمد نظرية) .
" الكدب مالوش رجلين "
لا تندهشوا عندما تعلمون أنه شرع في تدوين ما جمعه من قواعد في دفاتر كثيرة مع ذِكر نسبة صحتها قياساً بمن قاموا بتجربتها .
" أضرب المربوط يخاف السايب "
أتت اللحظة التي شعر فيها برغبته في خلق قواعده الخاصة .. قواعد يُخضعها للتجربة بنفسه ..
تلك اللحظة التي يقرر فيها (الصنايعي) أن يفتح (ورشته) الخاصة به .
لم تجد أفكاره حدوداً لتتوقف عندها ..
اقتربت قواعده إلى الغيبيات ..
تجسدت في صُورَها الأولى ..
تجسدت في هيئة أسئلة .
" هل سيتدخل الله إذا أراد شخصاً ما إنهاء العالم ؟ "
قرأ كل ما يتعلق بالكوارث التي أصابت الأرض يوماً وأدرك أن التدخل الإلهي لم يكن يوماً بشكل يمكن أن يُطلق عليه (تَدخُل إلهي مباشر) ، بالطبع كان يُدرك أن الطبيعة في حد ذاتها ما هي إلا تَدخُل إلهي ولكن كان ما يبحث عنه هو التدخل المباشر أياً كانت صوره .
ظل السؤال يتردد في ذهنه .. ولم يجد شيئاً يفعله ليُخضِع السؤال للاختبار ..
لم يكن يعلم أن الأمور ستسير نحو النهاية ، وأن الأرض ستُصبح كلها حقل تجارب لإثبات نظريته .
كان يجلس في تلك الحديقة التي تمتلئ بالعشاق الذين لم يجدوا أي مكان آخر لتفريغ عواصفهم تجاه بعضهم البعض ..
كان منهمكاً في الكتابة وبجواره تراصت الكتب حينما أضاءت السماء بذلك الضوء الساطع ..
كانت اللحظة المناسبة ليستغلها كل شاب موجود في الحديقة ليضم حبيبته ليطمئنها وإن كان كلاً منهم يتمنى أن يتكرر الأمر ليُكرر الفعل ، ولكن الأمر كان يختلف مع (أحمد) ..
بالنسبة له كانت ظاهرة تستحق الاهتمام وبدأ يشعر بالقلق .. قلق من وَهَب حياته لدراسة كل شيء .
ركض نحو منزله وظل يبحث عن إن كانت تلك الظواهر قد تكررت من قبل أم لا ..
وما وجده كان كفيلاً بأن يشعر بالقلق من أن شيئاً ضخماً سيحدث .

*************************
كانت تظن أن جمالها ما هو إلا لعنة ..
دائماً ما كانت تتخيل نفسها قطعة من الحلوة تجذب الذباب ليس لسبب إلا وأنها قطعة حلوى .
أحياناً ما تمنت أن تكون قد خُلقت بشعة لا ينظر إليها أحد وإن كانت في نفس الوقت تهتم دوماً بجمالها ..
لم تكن كمثيلتها ممن يستمتعن بلفت نظر الرجال وينتشين من كلمات الغزل التي ترتمي نحوها كالورد أحياناً وكالأحجار أحياناً أخرى .
كانت تظن أن جمالها ما هو إلا لعنة ..
لعنة جعلتها لا تعلم من يتودد إليها لشخصها ومن يتودد لأنها مجرد فتاة جميلة ..
لعنة قد حَوّلت حياتها لجحيم وجعلتها تُصاب بالارتياب والخوف من التقرّب من أحد .
قالت لها أحد الصديقات يوماً :
- " أنتي تُعطين الأمر أكبر مما يحتمل يا (سارة) .. إن جمالك لهو نعمة فتمتعي بها "
أجابتها :
- " بمعنى ؟ "
- " بمعنى أننا خُلقن جميلات ليلقي الرجال بأنفسهم تحت أقدامنا طلبناً لرضانا .. فلا تُهملين تلك النعمة يا صديقتي "
لم تقتنع (سارة) يوماً بتلك النظرية ولكنها أيضاً لم تستطع التأقلم مع الأمر .
كانت دائماً تسخر عندما تسمع عن من انتحر بسبب رسوبه في الدراسة أو بسبب قصة حب فاشلة ، كانت تظن أن الانتحار لابد وأن يكون لسبب قوي وإلا لن يكون له فائدة ..
ولكنها أدركت مؤخراً أن من يقرر الانتحار يُدفع إليه دفعاً دون أن يُفكر للحظات عن مدى سخافة السبب .
لو استشارت أحد الأطباء لربما شَخَّص حالتها وأعطاها من الأدوية ما كان سيعيدها حتماً إلى حالة مستقرة ، أو ربما زادت الأدوية اكتئابها كما يحدث دوماً مع من يتعاطون علاجاً نفسياً ، ولكنها قررت أن تلجأ إلى حل جذري يُنهي حالة التفكير المستمر ..
أزاحت عن عقلها مدى سخافة سبب انتحارها وتوقُعها بألا يُشفِق الناس عليها ولربما اتهموها بالـ (عبيطة) ..
" قتلت نفسها لأنها تشعر أن الآخرون يصاحبونها لجمالها لا لشخصها .. هاهاهاهاهاااااا "
هذا ما تتوقع أن يُقال بعد مماتها ، ولكنها - لحسن حظها - لن تكون موجودة حينها لتتضايق من التعليقات .
الخطوة الثانية هي اختيار طريقة الانتحار ..
قطْع الشرايين أمر مُقزز وقد يتم إنقاذها منه وحينها سيكون عليها أن تعيش في جو من العتاب والغضب ونظرات الشفقة وهو أمر يدفع للانتحار مرة أخرى ..
ابتلاع أقراص أي نوع من الدواء بشكل مبالغ فيه .. ولكن فرصة النجاة منه كبيرة ، كما أنه موتٌ بطيء ومُمل ..
إذن لا يوجد حل سوى القفز من الشُرفة ..
وسيلة سهلة وسريعة ولكنها تحتاج إلى الجرأة وسرعة التنفيذ لأن وقفتها على سور الشرفة إن طالت تُعطي فرصة أن يحاول أحد ما من جيرانها أو من المارة إنقاذها ليبدو في مظهر البطل ولتبدو هي في مظهر الحمقاء المُراهِقة ..
للحظة لاحظت أن كل وسائل الانتحار قد عرفتها من الأفلام والمُسلسلات مما جعلها تتساءل عن كيف كان الحال إذا لم يتعلم الناس تلك الطرق منها ، وهل كلاً منهما - الأفلام والمُسلسلات - يُعتبر مسئول عن تعريف الناس بوسائل الانتحار ؟
لا وقت للمناقشات الجدلية .. أنه وقت الانتحار يا فتاة ...
هِمّي بالانتحار فلا وقت لديكي ..
هيا اصعدي فوق  السور ..
تترددين في خلع الخُف ؟ هل الموت بالخُف أو من دونه سيفرق حقاً ؟!!!
كم أنتي غريبة يا (سارة) ؟
لا تظنين أن عدم وجود عائلتك بالمنزل يعني أن أمامك الدهر بأكمله للتنفيذ ..
فقط قومي بالتنفيذ ..
تمام جداً .. ها أنتِ قد أستجمعتي شجاعتك وصعدتي فوق السور ..
لماذا تُغمضين عينيكِ ؟ هل تخافين من رؤية اللحظة الأخيرة ؟
تحلي بالشجاعة وافتحيهما يا فتاة ..
اختلسَت نظرة لأسفل وظنّت أن ما تراه هو هلاوس ما قبل الموت وإن لم تكن قد سمعت من قبل عن أن هناك ما يُسمى بـ (هلاوس ما قبل الموت) ولكنها لم تجد تفسير لما رأته سوى ذلك ..
الكل يركض في الشارع لسبب لا تعرفه .. والكل يتمزق لأشلاء لسبب لا تعرفه ؟
ما الذي يحدث ؟
ما الذي يحدث ؟
ما الذي يحدث ؟
كادت قدماها أن تتخليان عنها وتُنفذ ما قررته دون قصد منها ولكنها تمالكت نفسها لسبب لا تعرفه وهبطت بسرعة داخل الشرفة وظلت تراقب ما يحدث في فزع .
الدماء تملأ الشارع والصراخ يعلو ..
هل ما يحدث هو مرض أصاب البشر ؟ وإن كان مرض فلماذا لم تُصاب به ؟
كانت من هواة أفلام الرعب الدموية - أو المعوية كما يُطلق عليها - ولكنها برغم ذلك لم تتوقع أن ترى الأمر أمامها كمباراة كرة قدم في إستاد .
ركضت نحو باب المنزل لتوصده بالأقفال ولكنها استمعت إلى الصراخ خارجه ..
إذن الخطر يقترب ..
عادت مُسرعة إلى غرفتها وبحثت عن مكان للاختباء ولكنها لم تجد .
اللعنة ..
يبدو وكأن الأحداث تدفعها للسيناريو التقليدي الذي لا يخلو فيلم رعب منه ..
الاختباء في الخزانة + عدم إصدار صوت + دخول القاتل إلى الغرفة ..
أما النهاية فستعود إلى المُخرِج فإن أراد أن يراها القاتل فستُقتل ، أما لو أراد ألا يراها فسيُكتب لها عمر جديد .
لم تمر دقائق إلا وقد سمعت صوت إنتزاع باب الشقة .. والأمر لا يحتاج لذكاء لتُدرك أن من أنتزعه لقادر على قتلها بمجرد أن يلمسها .
لم تكن تتوقع يوماً أن تكون في هذا الموقف ..
موقف لا تعلم نهايته ..
نهاية لا تعرفها لحياتها .
تسمع الخطوات ..
خطوات ثقيلة يدوي صوتها بأذنيها ، أم هو صوت دقات قلبها ؟
تسمع صوت أنفاسه تتعالى ..
باب الخزانة يُفتح ببطء قاتل ..
عليها أن تنتظر مصيرها فلا مفر ..
لا مفر .

(يُتبع)

 محمد العليمي

 

الخميس، 15 نوفمبر 2012

الحلقة الخامسة

" ستشاهد الآن مشهد مُعاد من أفلامكم التافهة .. مشهد إيضاح كل ما سبق "
قالتها (مانلديم) في سخرية وهي تتمدد على فراش (صفا) بكل هدوء وبرود واستطردت قائلة :
- " إن الأمر لا يتعلق بك لو كنت تظن ذلك .. أنت مجرد حلقة أخيرة في سلسلة طويلة من الحلقات التي بدأت منذ بدأ الخليقة ..
أنا لست (أبليسكم) لو كنت تظن ذلك ، ولست كائناً من الفضاء الخارجي أيضاً ..
لست كائناً خالداً عاصر كل الأزمان .. لست واحداً ممن ذخرت به أساطيركم البلهاء  ..
أنا آخر سلالة فصيلتي .. أنا من قُدر لها أن تحقق ما خُلقت سلالتي من أجله .
في كل عصر كان هناك فرداً من سلالتي يحاول أن يحقق ما حاولتُ تحقيقه ..
عقد صفقات فريدة من نوعها مع من فقدوا إيمانهم بكل شيء .. إيمانهم بنفسهم .. مستقبلهم ..
بخالقهم ..
كان كل وسيط حينها لا يعلم السبب الحقيقي لأنه ببساطة كان يظن أنه المُقدر له تحقيق هدفنا .
عهدتك مُثقفاً أو هكذا تبدو .. من المؤكد أنك تعرف الأسطورة الألمانية عن (فاوست) الذي قرر أن يبيع روحه للشيطان ، هذه الأسطورة وغيرها من الأساطير عن من عقدوا اتفاقا مع الشيطان لبيع أرواحهم ما هي نتيجة إلا لمحاولات فاشلة حاولها أسلافي لتحقيق ما نجحت في تحقيقه معك ..
لم تستوعب العقول غير أننا شياطين .. لم يدركوا أننا ما لم يتخيلوه أبداً ..
نحن من لم يذكرهم كتاب مُقدس ولا رسول ..
نحن الخطر الأشد ضراوة من كويكب أو إعصار أو زلزال ضرب كوكبكم يوماً ما ..
نحن نهايتكم . "
نهضَتَ (ناملديم) وصارت تجوب الغرفة كالممثل الذي يؤدي دوره على المسرح وقالت :
- " أعلم أنك تريد أن تعلم ما دورك في تلك القصة ..
في الواقع أنك لم تكن أول من حاولت معه ولا أول من حاولَت سلالتي معه في التاريخ ..
فالتاريخ يمتلئ بالأغبياء الذين يوافقون على أي شيء مقابل ما يتمنونه ..
ولكنك أنت تختلف عنه .. ليس في أنك الأغبى ولكن في أنني أنا من جعلتك تصل إلى ما يجعلك توافق .
في البداية أحكمت قبضتي على كل ما يُحيط بك من أمور تدفعك دفعاً إلى الانتحار ..
نظرت إلى داخلك وجدت أول ما جعلني أتبناك إن صح التعبير ..
فقدانك بالإيمان بكل شيء ..
تلك كانت البداية وما أتى بعدها كان من صنعي .
كانت صلتي بك هي الأحلام التي كنت تستيقظ بعدها فاقداً للرغبة في الحياة ورافضاً في الموت أيضاً ..
خلقت داخلك ذلك الشعور الذي لم تجد له حل سوى أن تبحث عن مخرج له في الكتب والماورائيات ..
انتظرتك في ذلك الموقع الإلكتروني وأنا أعلم أنك قادم لا محالة ..
سيطرتي على العقل البشري هي ما أفتقده أسلافي وهو ما جعلني أتأكد أنني أنا المؤهلة لتحقيق هدفهم ، وهو أمر لم أكن أتوقع أنني أملكه إلا عندما وجدتك ..
ويبقى السؤال هنا ..
هل أنا المختار الذي تحدث عنه أسلافي أم أن وجودك هو من جعلني أنا المختار ؟ "
ضحَكَت ضحكة ذكرتني بتلك الضحكات الشيطانية ثم قالت :
- " دعنا من تلك الفلسفة الفارغة .. فالمهم أنني حققت ما أصبو إليه .. وأدخلتك (برزخ التأهيل) ثم أخرجتك منه باختيارك وبذلك كسرتُ الحاجز الفاصل بينه وبين عالمك .. أصبحت أنت أول من غادره .. ولكنك لن تكون الأخير ..
أنت كنت بمثابة قربان بشري بمفهوم الثقافات القديمة .. أضحية تفتح الطريق لا لرضاء الآلهة ولكن لتنفيذ مخططنا "
حتى تلك اللحظة كانت الصدمة تشل عقلي قبل لساني ويبدو أنها كانت تعلم ما أريد قوله ..
- " تفاصيل أكثر ؟ تريد تفاصيل أكثر يا (شريف) ؟
عن ماذا ؟ .. عن لما قمت بإرسال حبيبتك أمام نظرك إلى (برزخ التأهيل) ولم أخفيها قبل ذلك ؟
السبب هو هذا .. "
وفي تلك اللحظة ظهرت (صفا) بجوارها ..
كانت كآخر مرة رأيتها ولكن اللون الأبيض في عينها كان قد تحول إلى لون الدماء ..
ملامح وجهها تحولت إلى ملامح أشرس حيوان رأيته في حياتك ..
- " كنت أريدك أن ترى حبيبتك قبل أن تتحول إلى هذا الشيء .. فأنا أعلم ما تُمثله لك ..
هل رأيت ما فعله تسرّعك يا (شريف) ؟ .. لا .. لا أقصد أنني حزينة لما فعلته بالطبع ، ولكني أشكرك على أنك حققت لي ما أبتغيه ..
جيش كامل مُكوّن من الملايين ممن أدخلتهم أنا وأسلافي عبر العصور إلى برزخ التأهيل لا يراه أحد ولا يُصيبه أي شيء وتحت سيطرتي ويُقاتل قتالاً أشرس من أي مخلوق على وجه الأرض ..
وبينما نتحدث الآن يجتاح جنودي كل بقعة في الأرض .. يمزقون كل من يقابلهم "
صمتت للحظات ثم توجهت إلى النافذة لتفتحها ووصل إلى مسامعي أصوات الصرخات ..
صرخات أطفال ..
نساء ..
رجال ..
إن لم يكن ما يحدث هو نهاية العالم فما شكل النهاية إن لم تكن بهذا الشكل ..
نظرت لي وهي تبتسم :
" جنودي يقومون بدورهم كما تمنيت وأكثر .. "
قلت لها وأنا أقاوم هذا الشلل الذي أصابتني به :
- " أقسم أنني سأمزقك "
- " هههههههههههههههههههههههههههههههههههه .. أقصى ما يمكنك فعله هو أن تدعو إلهك أن يُنجي كوكبك مما سيحدث .. وجب عليك الآن أن تستعيد إيمانك به "
اتجهت نحوي وأنحت على ركبتيها ..
- " لنكن صرحاء .. أنت لا تستطيع إيذائي ولا منع ما يحدث ، وأنا أقدر على سحقك ولكني لا أستطيع ذلك .. فبقاءك مهم تلك الفترة من بداية عهدي .. والسبب من تقيدي لحريتك هو خوفي من أن تحاول أن تحاول مهاجمتي فأنهي حياتك كرد فعل غير مقصود مني ..
نعم .. قيدت حركتك خوفاً على سلامتك لا على سلامتي "
نهضَت من جلستها وقالت :
- " سأحررك الآن .. وأنصحك بأن تتأقلم على الوضع ..
إلى اللقاء أيها القربان البشري  "
سطع الضوء الأبيض فجأة مرة أخرى ، ولكن هذه المرة صاحبه غيابي عن الوعي ..
*********************************************
أيقظتني تلك الرائحة المميزة للدخان ..
تمنيتُ بالتأكيد كباقي أبطال القصص المُشابهة أن يكون الأمر مجرد حلم ولكن عندما فتحت عيني ووجدت أنني مازلت في غرفة (صفا) تأكدت حينها أن الأمر أبعد ما يكون عن الأحلام .. وأبعد ما يكون عن الواقع ..
توجهت نحو الشرفة التي تحطم مدخلها زجاجاً وخشباً كأثر لانفجار يبدو أنه حدث خارج المبني ..
تلك الموجة التي طالما رأيتها تنتج عن الأنفجارات في أفلام الحركة .
ألقيت نظرة من الشرفة على الشارع ..
ورأيت أسوأ ما تخيلته يوماً عن وصف كلمة دمار ..
المباني تتصاعد منها الأدخنة .. الشوارع مليئة بجثث بشرية ومن بقى حياً فيطارده أحد جنود (ناميلديم) ليُلحقه بمن سبقه من المتراميين على أطراف الطرق .
مشهد يبدو وكأنه ضمن فيلم أخرجه أكثر المخرجين دموية .
ركضتُ إلى الشارع هبوطاً على الدرجات ، وفي كل طابق كنت أرى أبواب المنازل وقد انخلعت عن أماكنها مما جعلني أتخيل ما سأجده داخل كل منزل .
زادت سرعة ركضي على درجات السلم هرباً من رؤية الموجود داخل كل منزل إلى أن وصلت للشارع ..
وتمنيت حينها لو أنني لم أغادر بالشرفة ..
كان الوضع عن قرب أبشع مما رأيته بأعلى ..
أسير وكأنني ألقيت فجأة في وسط ساحة سابقة لمعركة من معارك المغول ، فهم على حد علمي كانوا أشرس من ذكرهم التاريخ ، وإن وجد التاريخ من يكتبه ممن بقى من الأحياء فأظن أنه سيعيد صياغة هذا الجزء نظراً لما يحدث .
تذكرت في تلك اللحظة أن من يُقتل لا يرى قاتله ..
أغمضت عيني للحظات لأتخيل مشهد ما حدث في هذا الشارع ..
العشرات يركضون وكل شخص يرى غيره وهو يُمزق من دون أن يمسه شيء .. قبل أن يُمزق هو بدوره دون أن يُدرك أيضاً هوية من مزقه .
كان بعض الجنود يركضون بجواري وكأنهم لا يروني بما يعني أنهم مُبرمجين على قتل البشر فقط ..
لقد حقق الوسيط ما حلم به الخبراء العسكريين على مر التاريخ ..
الجيش الخفي ..
جيش يُنفذ مهمته دون أن يراه أحد ، والأهم من ذلك أنه لا يمكن القضاء عليه .
*********************************************
في ذلك الوقت كانت كل بقاع الأرض تُهاجم ..
كل من اختفى يوماً من مدينته عاد إليها مقاتلاً لأهلها ..
رؤساء الدول في مخابئهم التي خصصت لما هو أقل هولاً من الوضع الحالي ويلتقطون تابعيات ما يحدث ممن بقى من رجالهم ..
العدو مجهول ..
سبب الاعتداء مجهول
عدد الأحياء مجهول
المصير .. مجهول أيضاً..
لا يعلم ما يحدث سوى اثنان فقط .. أحدهما لا يستطيع فعل شيء والآخر يجلس الآن في أحد الأماكن يستمتع بروعة ما أنجزه .
العالم ينتهي ..
ليس بسبب ما امتلأت به النظريات والروايات والأفلام من تخيُّلات .. ولكن بسبب كائن نجهل حقيقته .
*********************************************
تم اتخاذ القرار من رؤساء العالم ..
قصف المناطق التي تتعرض للهجوم ظناً منهم أن هذا هو الحل لإيقاف ما يحدث ولم يدركوا أنهم بذلك يُساعدون على إبادة من تبقى من البشر في المناطق التي تمت إبادة معظم سكانها ..
ولم يُدركوا أن شيئاً لن يؤثر فيما يواجهونه .
امتلأت السماء في كافة بقاع الأرض بالطائرات تقصف الأماكن التي تعرضت أو تتعرض للهجوم ، وتصاعدت ألسنة اللهب ..
ولمدة ساعة ظن الجميع أنه تم السيطرة على الوضع ..
حتى بدأت الموجة الثانية من الهجمات .
تم مهاجمة المعسكرات والمناطق العسكرية ..
الجنود قُتلوا في أماكنهم ..
العالم ينتهي ..
إن لم يكن قد أنتهي بالفعل .
في كل الروايات التي قرأتها والتي تنبأت بسيطرة قوى معينة على الأرض كان دائماً ما تكون هناك مقاومة ما شُكلت ممن تبقى من البشر ، ولكني الآن أدركت أن هذا محض هراء وأن تلك المقاومة التي تمتلئ بها الروايات والأفلام كان الهدف من وجودها هو فقط إطالة الأحداث لا أكثر أو إنتاج أجزاء أخرى لجني الأموال من القراء والمشاهدين .
لا أظن أن أحد قد تبقى أو سيتبقى من البشر ..
ولا أظن أن الأرض ستنجو ..
ولكن يجب علىّ إنقاذ ما يمكن إنقاذه ..
فلربما قد لا تكون تلك هي النهاية .. ربما تكون هي البداية .

(يُتبع)

محمد العليمي